قريتي المنسية../ مقال رأي

0
234

من عاصمة القرار الوطني تبعد نحو ألف ومائة كيلومتر لكنها من الحدود المفتوحة على اللانهائي لا تبعد سوى كيلومترات معدودات. لكل ذلك، كما يبدو، دلالات عميقة وآثارشاخصة في مسقط رأسي.

لا أعرف على وجه اليقين متى قامت هذه القرية لكن مدرستها تعود لعام سبعة وخمسين ويشهد طابعها المعماري المتين على جدية بناة الوطن وواضعي لبناته الرسمية الأولى.

سأستجمع قواي لأقفز ستين عاما أو يزيد وها أنذا بينكم أواخر عام ألفين وعشرين. خلال العقود الماضية تحولتْ من قرية للفلاحين “أدباي” ومحور تدور حوله حركة المنمين في رحلة الشتاء والصيف، إلى تجمّع مترامي الأطراف وسوق شعبي أسبوعي يحج إليه الناس رجالا وعلى كل ضامر من كل فجاج عميقة على جانبي الحدود، من عشرات القرى والأحياء البدوية ومن المدن الواقعة في مدار جاذبية هذا الموعد التجاري.. تعود الحياة بعدها إلى روتينها المعهود في انتظار أربعاء آخر يرتفع فيه الإيقاع ويسود الوغى وتختلط الهمهمات والغمغمات بمختلف لهجات التواصل في “فضاء شينغن” الإفريقي هذا.   

تحوّل “الأدباي” / المركز الإداري إلى بلدة كبيرة تفوق كثيرا من عواصم المقاطعات وبعض عواصم ولايات الوطن أهمية اقتصادية وموقعا جغرافيا وتناغما وألفة بين العرب بيضا وسمرا والسوننكي داخل القرية وصولا إلى امتدادهم الثقافي والعرقي في أعماق منطقة”باقنة” على الجانب الآخر من حدود لا تعبأ بها قطعاننا عند آخر زخات أكتوبر وكذلك يفعل الفلان الرحّل في الاتجاه المعاكس خلف قطعان أبقارهم ذات القرون العملاقة المخيفة وأغنامهم الملونة الجميلة عندما تجود السماء بالغيث شمالا داخل الأراضي الموريتانية.

جراء الجفاف أصبحت القرية ومحيطها في السنوات الماضية يئنان تحت وطأة الباحثين بخطوات أثقلها المسير من ثلاث ولايات أو أكثر عن بقايا كلأ وجرعة ماء شحّت حتى أصبح السكان الأصليون يجلبونها من “ترمباني” و”شيشنّة” على بعد عشرة كيلومترات تماما كما كان يفعل الأسلاف في “روايتهم” المضنية..

بوسطيلة إذن بلاد بها نيطت عليّ تمائمي وكانت مضرب المثل في الخصب ووفرة الماء ومن ذلك تسميتها، غير أنها أمست اليوم عنوانا للإهمال إلا من لدن قوافل المتسوقين، باعة وشراة.. هؤلاء وأولئك ما زالوا ينفرون إليها مساء الثلاثاء للمبيت بها ليلة السوق الأكبر.

في طفولتنا كان يمضي الأسبوع وربما الأسبوعان دون أن يزمّر فيها بوق سيارة واحدة، لكنها اليوم تزدحم باليابانيات والألمانيات يمتلكها بعضُ أهالي القرية الوافدون غالبا في التسعينات وبداية الألفية الحالية من مدن مختلفة ومن البوادي المحيطة بها. كما أن الرحّل الذين تقرّوا في تجمعات عشوائية لا تشذ عن القاعدة الذهبية في الوطن العزيز، باعوا قطعانهم ولم يستبقوا إلا القليل، واشتروا سيارات كانوا يأملون منها تحقيق أرباح طائلة فلم يعد أحد مضطرا لدفع أجرة “الركوب” لأحد لأنهم جميعا “مسيرون” بعد أن استبدلوا، مضطرين أحيانا، الذي هو أدنى بالذي هو خير.

هذا “الماغما” الاجتماعي المنصهر في القرية ومحيطها الاستراتيجي. لا يختلف كثيرا عن جيل الاستقلال وما قبله من بدو “موريتانيا الأعماق” ( شكرا للأستاذ محمد ولد زمزامعلى هذا المفهوم الجميل اشتقاقا وتطوافا بنا صوتا وصورة في ربوع الوطن) في عدم تعويلهم على الدولة. الموظفون من أهل القرية يعدون على رؤوس أصابع يدي شخص واحد دون مبالغة، والغالبية حياتهم ومماتهم لله رب العالمين،  مدينون له وحده. نعم هذه حال الجميع وفي مختلف أرجاء بلادنا والعالم، لكن يخيل إلي أن الأمر ينطبق عليهم أكثر ما ينطبق. 

وددت كتابة هذه السطور قبل أيام لكن الحياء ألجمني ومنعني من الحديث عن قريتي ونحن في غمرة الاستعداد لتخليد عيد استقلالنا المجيد في ذكراه الستين، مخافة التشويش على هذه الأجواء السعيدة. 

المفارقة أن هذه الاستعدادات هي ما أضرم نيران الأسى في كبدي.. رأيت وزراء يدشنون، مشكورين، شبكات المياه ومولدات الكهرباء ويشقّون الطرق ويفتتحون المدارس ويبثّون الأمل وروح الوطنية في التجمعات السكنية يربطونها بالوطن. أما نحن فلم تهبّ علينا ريح الصبا ولا نسمات التغيير؛ حاضر قريتنا كأمسها البعيد. حتى أثير الإذاعة الوطنية تستكثره الدولة علينا.. تمكّنت عشرات القرى من التقاط البث عبر الموجة الترددية “أف أم”، ونحن لا يصلنا في العصر الرقمي بث الإذاعات الوطنية بواسطة أي موجة كانت ولعل هناك من يلتقطونه بصعوبة، ناهيك عن الماء والكهرباء اللذين بيعت أحلامهما لأهالي “بوسطيلة” منذ عشر سنوات. زُرعت في بعض الأحياء حنفيات عمومية لكن عطاءها تضاءل تدريجيا حتى جفت الدماء في عروقها ولفظت أنفاسها دون أن نجد ماء نغسّلها به.. مسكينة عاشت عطشى وماتت كذلك وأغلب من صلّوا عليها تيمموا صعيدا طاهرا تلفحه الشمس نهارا وتحرقه ذكرياتها ليلا!!

أما الأعمدة الخشبية التي نصبت استعدادا لكهربة القرية، فقد تحولت إلى مشانق لكل تلك الأحلام لأنها الطريق الأسرع إلى قتلها رحمة بها وإشفاقًا عليها من انتظار “غودو”.

هل ذكرت الطريق في الجملة السابقة؟؟!!.. آه رحماك يا إلهي فما كان لي أن أذكره من تلقاء نفسي وأنا أتحدث عن بوسطيلة المنسية. 

قبل سنوات قيل لنا إن هناك مخططا يقضي بربط شرايين الحياة بين القرى والمدن.. لن تكون هذه المرة خطوط طول فحسب، وإنما هناك خطوط عرض أيضا في الحزام الجنوبي من الوطن.. بعضها ربط فعلا مناطق في ولايات مختلفة؛ بين الترارزة والبراكنة وغورغول وغيديماغا.

ملأت أسماعنا جعجعات عن طريق ينطلق من عوينات الزبل إلى جيكني فبوسطيلة فعدل بقرو. فأما الجزء الرابط بين جيكني وطريق الأمل فقد تحقق كما يبدو. وأما محطة الوصول وهي عدل بقرو فقد وضع قبل أيام الحجر الأساس لشق طريق إليها من عاصمة المقاطعة آمرج وهذا منطقي جدا ومستحق جدا.. وأما بوسطيلة فلا بواكي له ولا يبدو أن من الوارد ربطه بأي شيء، اللهم إلا بحبل متين يقيده ويشل حركته. 

وما قد لا يعرفه كثيرون للأسف، هو أن بوسطيلة المهمل المهمّش هذا، يشكّل أكبر خزان في مقاطعة تمبدغة؛ منه تتدفق المحاصيل الزراعية والبضائع في جيئة وذهاب على ضفتي الحدود في حركة تجارية دؤوب يؤهله لها موقعه “الحيوي”. أما قطعان الماشية فتنطلق منه في كل اتجاه ونحو انواكشوط وربما تعبر النهر إلى السينغال. 

على صعيد المشاريع المعلنة في ستينية الاستقلال أيضا تواترت أحاديث وزارة التجهيز والنقل عن طريق يربط عاصمة ولاية تكانت بالعصابة وصولا إلى كنكوصة ثم الحدود مع جمهورية مالي وهذا لعمري جهد جبار نقدره حق قدره ونشكر عليه الدولة ونسأل الله أن يجعله في ميزان حسناتها، ولا شك أن الدولة يوم تقف بين يدي الله بحاجة إلى ما يدرأ عنها العذاب لأنها مسؤولة عن رعيتها، ولا شك أيضا أن أي فسيلة تُغرس في أي بقعة من أرض الوطن الغالية هي مكسب لنا جميعا.

 

بقيت لي في ختام هذه السهرة وأنا أكتب مقالا ما كان بودّي أن يبلغ ما بلغه من طول لولا أن تراكمات الإحباط غلبتني، بقيت لي إذن ثلاث إشارات أولاها أنني أخشى حقا أن تكون السلطات قد طال عهدها بإلقاء نظرة فاحصة وشاملة على خريطة الوطن وجسده ولا أكتمكم أن وسواسا خناسا لا ينفك يقول لي “إن الدولة تنظر فعلا إلى الخريطة لكنها ظنت أن “قريتك المنسية هذه” تابعة لدولة جارة نظرا لبعدها، والبعيد عن العين مرشح لأن يكون بعيدا عن القلب”.

أما الإشارة الثانية فهي أن كثيرا من القرى والمناطق ينطبق عليها تماما  ما ينطبق على”قريتي المنسية”، لذا آن لها الأوان كي تخرج من دائرة النسيان. 

 وأما الإشارة الثالثة فهي إلى إيماني الراسخ بأن كل شبر من الوطن هو أيضا بوسطيلةٌ، وأنه مسقط لرأسي ورؤوس كل المواطنين وأن منطق المواطنة يتسامى على كل الاعتبارات الجهوية والمناطقية والعشائرية..

كل المودة والمحبة ولا تنسوا أنكم مدعوون لحفل عشاء فاخر يوم تدشين خدمات الماء والكهرباء في بوسطيلة ووصول الطريق المعبّد إليه من أي كوكب… والدعوة عامة. 

بقلم:باب ولد محمد

*رجل من أقصى المدينة