سيدة على أعتاب الثمانين، تتداعى بين الصفوف، تريد أن تلقي آخر نظرة على الجثمان، لقد جمعهما العُمر على هذه الأرض في «لمدن»؛ تقول مستجدية المزدحمين: «أريد أن أراه.. أريد فقط أن ألقي نظرة عليه».. هي لا تبكي ولكنها تُبكي، تمد يدها لعلها تصل إلى الجسد النائم وسط الزحمة، تكرر بحزن المؤمنة الصابرة: «لقد غادر هذه الأرض خيرٌ كثير».
إنه «الشاب» المتعلم أحسنَ تعليم، و«الإطار» الكفؤ الذي تلقفته الوزارات وهو شاب، ليعمل مع الرعيل الأول من جيل الاستقلال، إنه «الرجلُ» الذي اختاره الموريتانيون ليحكم، فاختار له القدرُ أن يخرجَ من الحكم بسرعة، ليدخل قلب كل موريتاني.
إنه «ديدي».. أو هكذا يُحب أهل لمدن أن يكنُّوه، فيرددون منذ أن وصل الخبر: «رحمكَ الله يا ديدي».. ليختزلوا بذلك كل المعاني التي يمثلها الراحل بالنسبة لهم.. تصل سيارة الإسعاف المسجد الجامع بقرية «لمدن»، تولت فرقة من الدرك حمل الجثمان المسجى بالعلم الوطني، المراسم الرئاسية ما تزال مستمرة من مسجد ابن عباس حتى مسجد لمدن، والمسافة بين المسجدين طويلة والفوارق كثيرة.
تقول سيدة بصوت مبحوح قادم من بعيد: «إنه رجل ثمين وعزيز، يبش لكل من لقيه، ويقضي لكل ذي حاجة حاجته بكل سرور»، تشهد لها صويحباتها بأن صدقت، قبل أن تضيف إحداهنَّ: «كان صافي القلب نقيه».
الرجال يتحلقون في باحة المسجد، يعددون مناقب الفقيد ويثنون عليه، ويدعون له بالرحمة والغفران، لا أحد هنا يتحدث عن السياسة أو عن الفترة التي قضاها الفقيد رئيساً للبلاد، كأنهم على مذهبه حين اعتزل الدنيا في هذه القرية الوديعة، وانشغل بمصحفه وسبحته وأوراده.
ترتفع أصوات التهليل ثم الترحم على روح الفقيد، يقف الجمع في صفوف متراصة، ويُكبرون.. يخيم الصمتُ إلا من همهمات خافتة، أو أصوات أطفال يسترقون النظر من فوق سور المسجد.
على عجل كما جرت العادة هنا، دُفن الفقيد بجوار والده، قرب المسجد الجامع لقريته التي وُلد فيها، والتي قضى فيها سنوات عزلته الأخيرة.
غادر المشيعون وهم يلهجون بالدعاء، يعددون خصال الفقيد، بعضهم يعزي بعضاً، لتخبر نبرة الصوت بما أضمر القلب المكلوم.. يقول أحدهم: «رحمك الله يا ديدي»، يتردد صوته صدى على ألسنة الحاضرين.. «رحمك الله يا ديدي».